فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {والسماء ذات البروج}
قد ذكرنا البروج في [الحجر: 16] {واليوم الموعود} هو يوم القيامة بإجماعهم {وشاهدٍ ومشهود} فيه أربعة وعشرون قولاً.
أحدها: أن الشاهد، يوم الجمعة، والمشهود.
يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد.
فعلى هذا سمي يوم الجمعة شاهداً، لأنه يشهد على كل عامل بما فيه، وسمي يوم عرفة مشهوداً، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة.
والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر.
والثالث: أن الشاهد: الله عز وجل، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس.
والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والخامس: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي.
والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله.
والسابع: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الضحاك.
والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب.
والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير.
والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك.
والحادي عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثاني عشر: أن الشاهد، ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة.
الثالث عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار.
والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود: الله عز وجل، قاله محمد بن كعب.
والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم.
والسادس عشر: أن الشاهد: عيسى عليه السلام، والمشهود، أمته، قاله أبو مالك.
ودليله قوله تعالى: {وكنتُ عليهم شهيداً} [المائدة: 117].
والسابع عشر: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
والثامن عشر: أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143].
والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه.
والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد.
والحادي والعشرون: أن الشاهد، الحجر الأسود، والمشهود: الحاج.
والثاني والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين...} الآية [آل عمران: 81].
والثالث والعشرون: أن الشاهد: الله عز وجل، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18]، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي.
والرابع والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم السلام، والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.
وفي جواب القسم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه قوله تعالى: {إنَّ بطش ربك لشديد} قاله قتادة، والزجاج.
والثاني: أنه قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود}، كما أن القسم في قوله تعالى: {والشمس وضحاها} {قد أفلح}، حكاه الفراء.
والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير.
قوله تعالى: {قتل أصحابُ الأخدود} أي: لُعِنُوا.
والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع: أخاديد.
وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقَوا فيها من لم يكفر.
واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال.
أحدها: أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السحر، وكان الغلام يمرُّ على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به المَلِك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به.
اجمع الناس في صعيد وأحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخدَّ الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: من لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في (المغني) و(الحدائق) بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن ملكاً من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها:
ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز وجل قد أَحَلَّ نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه، خطبتَهم فحرَّمته.
ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السوط، ثم جرَّد السيف، فأبَوْا فخدَّ لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله علي بن طالب.
والثالث: أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض، فغَدَر كفارهم، فأخذوهم، فقال له رجل من المؤمنين: أوقدوا ناراً، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتبعكم أُقحم النار فاسترحتم منه، ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة.
والرابع: أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأَبَوْا، فخدَّلهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس.
والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى، فخدَّلهم أُخدوداً، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل.
والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، فعلموا بهم، فخدُّوا لهم أُخدوداً، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج.
واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال.
أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله على كرم الله وجهه.
والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس.
والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن.
وقال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة.
والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد.
والخامس: من النبط، قاله عكرمة.
وفي عددهم ثلاثة أقوال.
أحدها: اثنا عشر ألفاً، قاله وهب.
والثاني: سبعون ألفاً، قاله ابن السائب.
والثالث: ثمانون رجلاً، وتسعة نسوة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {النَّارِ ذاتِ الوقود} هذا بدل من {الأخدود} كأنه قال: قتل أصحاب النار، و{الوقود} مفسر في [البقرة: 24].
وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة {الوقود} بضم الواو {إذ هم عليها قعود} أي: عند النار.
وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألْقَوْه {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} أي: حضور، فأخبر الله عز وجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم.
قوله تعالى: {وما نَقَمُواْ منهم} قرأ ابن أبي عبلة {نَقَمُواْ} بكسر القاف.
قال الزجاج: {أي} ما أنكروا عليهم إيمانهم.
وقد شرحنا معنى {نَقَمُواْ} في [المائدة: 59] و[براءة: 74] وشرحنا معنى {العزيز الحميد} في [البقرة: 129، 267].
قوله تعالى: {والله على كل شيء شهيد} أي: لم يَخْفَ عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا.
قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: أحرقوهم، وعذَّبوهم.
كقوله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} [الذاريات: 13] {ثم لم يتوبوا} من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين {فلهم عذاب جهنم} بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابيْن في جهنم عند الأكثرين.
وذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا.
قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار.
وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة.
قوله تعالى: {ذلك الفوز الكبير} لأنهم فازوا بالجنة.
وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة.
قوله تعالى: {إن بطش ربك} قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أَخَذَ الظَّلَمَة والجبابرة لشديد.
قوله تعالى: {إنه هو يُبْدِئُ ويعيد} فيه قولان:
أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور.
والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا علي الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقد شرحنا في [هود: 90] معنى {الودود}.
قوله تعالى: {ذو العرش المجيد} وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم {المجيد} بالخفض.
وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع {المجيد} جعله من صفات الله عز وجل، ومن كسر جعله من صفة العرش.
قوله تعالى: {هل أتاك حديث} أي: قد أتاك حديث {الجنود} وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله.
ثم بَيَّن من هم، فقال تعالى: {فرعونَ وثمود بل الذين كفروا} يعني: مشركي مكة {في تكذيب} لك والقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم {والله من ورائهم محيط} لا يخفى عليه شيء من أعمالهم {بل هو قرآن مجيد} أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون بشعر، ولا كهانة، ولا سِحر.
وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع {بل هو قرآن مجيد} بغير تنوين وبخفض {مجيد} {في لوحٍ محفوظ} وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله، محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه.
وقرأ نافع {محفوظ} رفعاً على نعت القرآن.
فالمعنى: إنه محفوظ من التحريف والتبديل. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {والسماء ذات البروج} يعني البروج الاثني عشر وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب حكمة الباري جلّ جلاله، وهو سير الشّمس والقمر الكواكب فيها على قدر معلوم لا يختلف وقيل البروج والكواكب العظام سميت بروجاً لظهورها {واليوم الموعود} يعني يوم القيامة {وشاهد ومشهود} عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشّاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعإذه الله منه» أخرجه الترمذي وضعف أحد رواته من قبل حفظه وهذا قول ابن عباس والأكثرين أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد يوم التّروية، والمشهود يوم عرفة وإنما حسن القسم بهذه الأيام لعظمها وشرفها، واجتماع المسلمين فيها، وقيل الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة، وقيل الشّاهد هم الأنبياء والمشهود أي عليهم هم الأمم وقيل الشاهد هو الملك والمشهود أي عليه هو آدم وذريته، وقيل الشّاهد هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة، وقيل الشّاهد الأنبياء والمشهود له هو محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأنبياء قبله شهدوا له بالنبوة وقوله، {والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود} أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها، وعظمها.
وجواب القسم قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} أي لعن وقتل وقيل جوابه {إن بطش ربك لشديد} والأخدود الشق المستطيل في الأرض.
واختلفوا فيهم فروي عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى السّاحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى السّاحر ضربه، إذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال اليوم أعلم الرّاهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال اللّهم إن كان أمر الرّاهب أحب إليك من أمر السّاحر، فاقتل هذه الدّابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها فمضى الناس، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني أنت أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك مبتلى فإن ابتليت فلا تدل على فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي النّاس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله، فإن آمنت بالله دعوت فشفاك فآمن به فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك فقال ربي: فقال أو لك رب غيري قال ربي، وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام فجيء بالغلام، فقال له الملك أي بني إنه قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الرّاهب فجيء له بالرّاهب، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك، فقيل له ارجع عن دينك فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام
فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم إذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللّهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال إذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فقال: وما هو قال تجمع الناس في صعيد وأحد وتصلبني على جذع نخل ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد وأحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام ثلاثاً، فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري ولا تقاعسي فإنك على الحق»
.
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين، وفيه إنقإذ النفس من الهلاك والأكمه هو الذي خلق أعمى، والميشار بالياء وتخفيف الهمزة وروي بالنون وذروة الجبل بالضم والكسر أعلاه، ورجف تحرك واضطرب والقرقور بضم القاف الأولى السفينة الصغيرة وانكفأت انقلبت، والصّعيد هنا الأرض البارزة والسّكك الطّرق والأخدود الشّق العظيم في الأرض، وأقحموه أي ارموه وتقاعست أي تأخرت وكرهت الدخول في النار.
وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه يسلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بداً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك.
وذكر نحو حديث صهيب وقال وهب بن منبه: إن رجلاً كان قد بقي على دين عيسى، فوقع إلى نجران فأحبوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النّار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخدود وحرق اثني عشر ألفاً ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً، فاقتحم البحر بفرسه فغرق.
وقال: محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر إن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها انبعثت دماً، وإذا تركت ارتدت مكانها وفي يده خاتم حديد فيه مكتوب ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وقال سعيد بن جبير وابن أبزى لما انهزم أهل اسفندهار، قال: عمر بن الخطاب أيُّ شيء يجري على المجوس من الأحكام، فإنهم ليسوا بأهل كتاب، فقال علي بن أبي طالب بلى قد كان لهم كتاب، وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم، فغلبت على عقله فوقع على أخته فلما ذهب عنه السكر ندم، وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت: المخرج منه أنّك تخطب الناس وتقول إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته.
فقام خطيباً بذلك فقال إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات فقال الناس بأجمعهم معإذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به، ما جاءنا به من نبي، ولا أنزل علينا في كتاب، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا به فجرد لهم الأخدود، وأوقدوا فيها النيران وعرضهم عليها فمن أبى قذفه في النار ومن أجاب أطلقه.
وقوله تعالى: {النار ذات الوقود}، هو تعظيم لأمر تلك النار قال الربيع بن أنس نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار يقبض أرواحهم، قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم {إذ هم عليها قعود}، أي جلوس عند الأخدود {وهم} يعني الملك الذي خد الأخدود وأصحابه {على ما يفعلون بالمؤمنين} أي من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم {شهود} أي حضور وقيل يشهدون أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الصنم، {وما نَقَمُواْ منهم} قال ابن عباس ما كرهوا منهم {إلا أن يؤمنوا بالله}، وقيل ما عابوا ولا علموا فيهم عيباً إلا إيمانهم بالله {العزيز}، يعني إن الذي يستحق العبادة هو الله العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يدافع، {الحميد} يعني الذي يستحق أن يحمد ويثنى عليه، وهو أهل لذلك وهو الله جل جلاله، {الذي له ملك السموات والأرض} أي فهو المستحق للعبادة {والله على كل شيء} أي من أفعالهم بالمؤمنين.
{شهيد}.
وفيه وعد عظيم للمؤمنين ووعيد عظيم للكافرين.
قوله عزَّ وجلَّ: {إن الذين فتنوا} أي عُذِّبوا وأحرِقُوا {المؤمنين والمؤمنات} أي بالنار {ثم لم يتوبوا} أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر وفيه دليل على أنهم إذا تابوا وآمنوا يقبل منهم، ويخرجون من هذا الوعيد، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة، وأن توبة القاتل مقبولة، وأنهم إن لم يتوبوا {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} يعني لهم عذاب جهنم بكفرهم، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين، وقيل لهم عذاب الحريق في الدنيا وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ارتفعت إليهم من الأخدود فأحرقتهم، ولهم عذاب جهنم في الآخرة ثم ذكر ما أعد للمؤمنين.
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}.
قوله عزّ وجلّ: {إن بطش ربك لشديد} قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد.
{إنه هو يبدئ ويعيد} أي يخلقهم أولاً في الدنيا، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت ليجازيهم بأعمالهم في القيامة {وهو الغفور} يعني لذنوب جميع المؤمنين.
{الودود} أي المحب لهم، وقيل المحبوب أي يوده أولياؤه ويحبونه، وقيل يغفر ويود أن يغفر، وقيل هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة.
{ذو العرش} أي خالقه ومالكه.
{المجيد} قرئ بالرفع على أنه صفة لله تعالى لأن المجد من صفات التعالى والجلال، وذلك لا يليق إلا بالله تعالى.
وقرئ {المجيد} بالكسر على أنه صفة للعرش أي للسرير العظيم إذ لا يعلم صفة العرش وعظمته إلا الله تعالى وقيل أراد حسنه فوصفه بالمجيد فقد قيل إن العرش أحسن الأجسام، ثم قال تعالى: {فعال لما يريد} يعني أنه لا يعجزه شيء ولا يمنع منه شيء طلبه، وقيل فعال لما يريد لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب، فهو يدخل أولياءه الجنة برحمته، لا يمنعه من ذلك مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر.
{هل أتاك} أي قد أتاك {حديث الجنود} أي خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا على الأنبياء ثم بين من هم فقال تعالى: {فرعون} يعني وقومه {وثمود} وكانت قصتهم عند أهل مكة مشهورة {بل الذين كفروا} أي من قومك يا محمد.
{في تكذيب} يعني لك وللقرآن كما كذب من كان قبلهم من الأمم، ولم يعتبروا بمن أهلكنا منهم {والله من ورائهم محيط}، أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.
{بل هو قرآن مجيد} أي كريم شريف كثير النفع والخير ليس هو كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
{في لوح محفوظ} قرئ بالرفع على أنه نعت للقرآن، {محفوظ} يعني أن القرآن من التبديل والتغيير والتحريف، وقرئ {محفوظ} بالكسر على أنه نعت لـ: {لوح} لأنه يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب وسمي محفوظاً لأنه حفظ من الشياطين من الزيادة والنقص، وهو عن يمين العرش، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عزّ وجلّ وصدق بوعده واتبع رسله، أدخله الجنة. وقال: واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه من نور، وكلامه سر معقود بالعرش وأصله في حجر ملك والله تعالى أعلم بمراده. اهـ.